في السوق الكبير
لم يخبرني أبي عن تلك الغابة خارج شرفتنا ، لم يخبرني أنه حين دق أوتاد بيتنا كان ذلك فوق سماء من تلك الثمانية البعيدة ، وأن ثامنتهم راقت له كثيراً فآثر أن يهديني شرفة أطل منها على الغيم مع كل وشوشة للضوء ، فتعلقت بالمطر وأنا أتابع عن كثب كيف تخبزه السماء على عينيها طازجاً لي وحدي.
لم يخبرني عن دوائر العراك أسفل شرفتي ، ولا عن ذلك الأزرق العملاق يدور حولنا فيقترب حيناً ويراوده الضباب الكثيف أحياناً فيبتعد ، وأن ذلك كان موطن ظهور كائن يدعى "الإنسان" . لم يخبرني كثيراً عن ماهية ذلك الكائن .. لا عن أحواله أو حالاته .. لا تفاصيل كثيرة عن تاريخ وجوده أو متى ينتهي تاريخ صلاحيته .. غير أنه من الآمن لنا أن نبتعد عنه قدر الإمكان فهذا النوع من الكائنات تظهر خطورته أكثر كلما اقتربت منه وصادقته ، أو فكرت أن تطعمه من نبضك، وتمنحه من أيامك ، تشعره بدفء أنفاسك ويأويه ملاذ قلبك .
لم يخبرني أبي عن أسواق النخاسة التي يبيعون فيها الابتسامة حين الشدة ،والسند الطيب حين التعثر، والعِشرة الممتدة مع سنوات العمر المبعثرة على أعتاب الوقت المهدر، ولا عن تلك الأرواح التي كبلتها مواثيق عهود تكفل الحزن أن يلاحقها في كامل حيواتها السابقة وما زال يفعل بإصرار .
لم يخبرني أبي سوى أن أغلق شرفتي عن ذلك الأزرق العملاق وساكنيه وألا أنصت لتلك الهمسات الملونة تحملها لي النجمات ولا ثرثرة الأساطير في حكاياتهن ... لكنني بفضول الروح التواقة للخلود وبفرح الاكتشافات المثيرة للدروب خارج سمائنا الثامنة.. خطوت أول خطواتي خارج شرفتي وسرت نحو الضوء اللامع على امتداد الأفق البعيد وصوت لا أعلم كنهه يرافقني، فحاصرتني تغاريد الظلال الكاذبة ، سرقت ضلالة الطريق خطوتي وتسرب الصوت عبر الدروب المخادعة .
ومذ حينها وأنا أبحث عن طريقي إلى شرفتي، إلى حيث أبي ينتظرني هلِعاً ، تآكل الوقت تناحرت عقاربه وأعلنت سمائي فرض حظر تجوال حتى يجدني طريقي نحو شرفتي .. وها أنا أعود وأنا أحمل على صدري رقماً مجازياً ضخماً من أرقام السوق الكبير
19 يوليو 2023
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق